القرم وتاريخها الاسلامي

على خلفية الأزمة الجارية في أوكرانيا، والتي ظهر بها صراع روسيا والغرب على النفوذ في البلاد، ودخلت القوات الروسية منطقة القرم، هل تعلم  أن حرب شهيرة  دارت عليها كانت الدولة العثمانية الطرف الرئيسي في اندلاعاها

حرب القرم .. الصراع على تركة الرجل العثماني المريض

ما قبل البداية

كان لحرب القرم أبعاد متنوعة منها الاقتصادي-السياسي، والثقافي-الديني بل والشخصي.القرم. بطلاها عملاقان كلا منهما يجمع بين الزعامة السياسية والروحية.. فالسلطان العثماني هو أمير المؤمنين وخليفة المسلمين و”الغازي” في سبيل الله وحامي بيضة الإسلام.. والقيصر الروسي هو وريث القيصرية البيزنطية وحامي الأرثذوكسية  .. هذا عن جزء من البُعد الديني للأمر، أما الجزء الثاني منه فيتمثل في حلقة من الصراع الكاثوليكي الأرثذوكسي القديم في السيطرة على المقدسات المسيحية بالقدس..

فرنسا وروسيا كانتا في حالة منافسة على رعاية وحماية مصالح الرعايا المسيحيين للسلطان العثماني، فبينما تولت الخارجية الفرنسية حماية المسيحيين اللاتين سعت روسيا لحماية قرنائهم الأرثذوكس.. وكانت ثمة منافسة ضارية بين الفئتين المسيحيتين على تولي شئون المقدسات في مدينة القُدس الشريف، وكانت الطائفة الأرثذوكسية هي صاحبة اليد الأعلى في هذا الشأن نظرًا للعدد الضخم ممن ينتمون لها (عشرة ملايين مسيحي) في الدولة العثمانية.

وبسبب حادثة اختفاء نجمة منقوشة بالفضة كانت تزيّن موقع ميلاد السيد المسيح عليه الصلاة والسلام في كنيسة المهد ببيت لحم، واتهّام الأرثذوكس بنزعها وعدم إثبات صحة ذلك الاتهام من قِبَل جهات التحقيق، طالبَت فرنسا بتوسيع صلاحيات اللاتين في القدس بينما طالبت روسيا بالمثل للأرثذوكس ودعت الباب العالي لرفض المطلب الفرنسي، ثم بعد ذلك تطوّر الأمر لمطالبة روسيا العثمانيون بتقنين رعاية القيصر الروسي للرعايا العثمانيين الأرثذوكس بموجب اتفاقية خاصة، وهدد الروس بأن رفض الباب العالي لهذا المطلب سيقابَل بإعلان الحرب!

أما من الناحية السياسية – وهي الأقوى – فإن المبعث الأساسي للموقف الروسي كان طمع القيصر نيقولا في تحقيق هدفين:الأول هو تنفيذ وصية سلفه العظيم بطرس الأكبر لخلفاءه ب”الوصول للمياه الدافئة”، أي أن يكون لروسيا موطيء قدم على سواحل البحور الكُبرى كالمحيط الهادي والخليج العربي والبحرين الأحمر والمتوسط.. أما الهدف الثاني فكان مسارعة روسيا لنيل أكبر نصيب ممكن من تَركة الدولة العثمانية التي كان كل ذي عينين يدرك أنها في طور الاحتضار..

وبالفعل فقد حاول نيقولا أن يقنع فرنسا وإنجلترا – كلا على حِدة – بالتحالف معه لتقاسُم أجزاء الإمبراطورية العثمانية ملوّحًا لبريطانيا بدعم استحواذها على مصر ولفرنسا بدعم استيلاءها على تونس.. إلا أن الدولتين الغربيتين رفضتا العرض الروسي لإدراك كلا منهما أن دخول الروس في تلك المنطقة سيهدد مصالح كلا منهما خاصة تلك المتعلقة بالطريق بين إنجلترا وأملاكها في الهند.. وعليه فإن مصلحتهما تقوم على الحفاظ على الجسد العثماني من التمزق لأطول فترة ممكنة..

أما الجانب الشخصي من موقف القيصر الروسي فكان ببساطة رغبته أن يدخل التاريخ كحاكم قوي يحقق توازن القوى في أوروبا في مواجهة فرنسا وإنجلترا ويعيد مجد القياصرة الأرثذوكس العظام، فضلًا عن أنه-كأغلب الأنظمة الأوروبية الحاكمة آنذاك-كان يسعى لنقل الاهتمام الشعبي لقضايا خارجية كمحاولة للتصدي لموجة التحرر الثوري التي كانت قد بدأت في الانتشار في أوروبا..

بداية الأحداث: دبلوماسيًا

مهّدت روسيا للحرب من خلال حشدها القوات على حدودها مع الإمبراطورية العثمانية وإيفادها الأمير متشينكوف إلى الباب العالي بحجة تسوية قضية الأماكن المقدسة وكذلك قضية المحاولات التحررية ل”الجبل الأسود” في البلقان-تلك المحاولات التي كانت روسيا تدعمها بشدة طمعًا في خلق “مخلب قط” لها تغرسه في جانب الجسد العثماني.. تلك القضية الأخيرة كانت هي المحرك الأقوى للسياسة الروسية تجاه العثمانيون، ولم تكن قضية المقدسات إلا ذريعة..

قدّم متشينكوف للباب العالي المطالب الروسية وهي:

-سحب جميع الامتيازات الممنوحة لرجال الدين الكاثوليك في الأراضي المقدسة ومنحها للأرثذوكس.

-الاعتراف بحق روسيا في رعاية الأرثذوكس في جميع أنحاء الدولة العثمانية.

-إبرام معاهدة دفاع مشترك مع روسيا للتصدي لأي اعتداءات على الدولة العثمانية.

كما طالب المبعوث الروسي بإغلاق المضائق في وجه السفن الفرنسية والإنجليزية..

بعد مشاورات بين السلطان ورجاله من ناحية وبين العثمانيون والسفراء الأوروبيون من جهة أخرى استقر القرار العثماني على رفض المطالب الروسية.. وبدأ الجميع في الاستعداد للحرب، فتحركت قطع الأسطول الفرنسي إلى “سلامين” في اليونان، بينما انتظرت القطع البحرية الإنجليزية في مالطة الأوامر للتحرك..

أما روسيا فجاء ردها سريعًا بعبور قواتها نهر “بروت” الذي يفصل بين أملاكها والأملاك العثمانية، واحتلت القوات الروسية “الأفلاق والبغدان”(والاشيا ومولدوفيا) للضغط على العثمانيون بعد خطبة عصماء ألقاها القيصر نيقولا الأول معلنًا نفسه حاميًا للأرثذوكسية ضد التدخل العثماني في الشأن الديني المسيحي!

وبدأت الحرب

أرسل السلطان العثماني إلى روسيا احتجاجًا على هذا التحرك العدواني، لم تعره روسيا اهتمامًا، وبادرت كلا من فرنسا وإنجلترا بإرسال قواتها البحرية إلى البحر الأسود في خليج بسيكا، وأنذرتا روسيا بالانسحاب الفوري من الأراضي العثمانية المحتلة..

كان القيصر الروسي يتوقع أن تحركه العسكري ضد الدولة العثمانية لن يؤدي إلى تحرك مماثل ضده من قِبَل فرنسا وانجلترا، كما كان يتوقع أن فرنسوا جوزيف إمبراطور النمسا والمجر سيسارع للوقوف إلى جانب روسيا، اعترافًا منه بجميلها إذ ساعدته في قمع ثورة المجر ضده سنة 1848.. ولكن القيصر كان قد أخطأ قراءة الموقف الفرنسي الإنجليزي من أي تواجد روسي قرب البحر المتوسط..

أما العاهل النمساوي – الذي لا يريد لبلاده أن تدخل حربًا غير ذات فائدة لها – فحاول أن يمسك العصا من المنتصف بدعوته لمؤتمر في فيينا يجمع الأطراف المتصارعة، إلا أن كلا من العثمانيون والروس امتنعوا عن حضور المؤتمر الذي لم ينجح في نزع فتيل الحرب..

هنا أعلنت كلا من الدولة العثمانية وروسيا الحرب رسميًا، وتحركت القوات العثمانية إلى نهر الدانوب حيث عبرته وانتصرت على جيشًا روسيًا هناك.. بينما كانت قوة عثمانية أخرى تخترق الحدود مع روسيا وتحتل قلعة سان نيقولا..

سارع القيصر نيقولا إلى طلب العون من نظيره النمساوي إلا أن هذا الأخير لم يجد مناصًا من مصارحته بان مصلحة بلاده تقضي ببقاءها على الحياد.

بُذِلَت محاولة دبلوماسية أخرى لتهدئة الوضع كان صاحبها العاهل الفرنسي نابليون الثالث الذي عرض على روسيا في يناير 1854 الانسحاب من ولايات الدانوب-مولدوفيا ووالاشيا-مقابل تنظيم مؤتمر للنظر في أمر الصلح مع الدولة العثمانيةـ إلا أن روسيا رفضت العرض مما دفع فرنسا وإنجلترا لدخول الحرب رسميًا على روسيًا في مارس من نفس العام.

بدأ الفرنسيون والإنجليز في قصف مرفأ أوديسا الروسي وبعض المرافيء الروسية على البحر الأسود.

في ذلك الوقت كان جيشًا روسيًا يعبر الدانوب ليواجه جيشًا عثمانيًا ويهزمه عند مدينة سيلسيتريه، إلا أن انتشار الكوليرا في صفوف الروس حال بينهم وبين الاستيلاء على المدينة.

هنا فوجيء القيصر الروسي بصفعة هائلة، فالنمسا قامت بإبرام اتفاقية دفاعية ضد الروس مع دولة بروسيا، وانضمت إلى التحالف الإنجليزي الفرنسي العثماني، وأرسلت إنذارًا لروسيا بالانسحاب من ولايات الدانوب العثمانية، وتدخل ملك بروسيا عند القيصر نيقولا ناصحًا إياه بالانصياع للإنذار.. ولم يجد القيصر مناصًا من القبول، وهكذا دخلت القوات النمساوية المنطقة باعتبار أنها تقوم بمهمة “حفظ للسلام” وفصلت بين الجانبين المتحاربين الروسي والعثماني..

وهكذا انتهت الحرب على جبهة الدانوب.. ولكنها انتقلت بأكملها لجبهة القرم.. فالحلفاء ضد روسيا لم يكونوا ليهدئوا إلا بضمان انتهاء الخطر الروسي على الدولة العثمانية!

**

في سبتمبر 1854 قامت القوات المتحالفة بعملية إنزال قرب ميناء سباستبول الروسي على البحر الأسود، وبسبب أخطاء في التخطيط الحربي تأخر سقوط المدينة في أيديهم إلى العام 1855 وإن كانوا قد استطاعوا كذلك السيطرة على ميناء أوديسّا..

كان الهدف من هذا التدخل العسكري في الأراضي الروسية هو القضاء على القوة البحرية لروسيا وإغلاق الباب تمامًا لأية فرص مستقبلية لاعتداء الروس على الأراضي العثمانية..

واستمرارًا في سياستها لإقرار السلام، تدخلت النمسا لدى الدول المتحاربة بمذكرة تضمنت أربعة بنود مقترحة لإقرار السلام:

-استبدال الحماية الروسية على ولايتا “الأفلاق والبغدان”(والاشيا ومولدوفيا) بضمان أوروبي بموافقة الباب العالي.

-حرية الملاحة لجميع الدول في نهر الدانوب.

-إعادة النظر في اتفاقية المضائق لسنة 1841 لصالح التوازن الأوروبي.

-تخلي روسيا عن حقها في رعاية مسيحيي منطقة البلقان.

بينما وافقت الحكومة العثمانية على المذكرة، رفضتها نظيرتها الروسية باعتبار أن بنودها مهينة لروسيا.. فشدد الحلفاء من ضغطهم العسكري على جبهة القرم، وانضمت دولة سردينيا الإيطالية إلى الحلفاء في حربهم ضد روسيا، كما قامت السويد بخطوة مماثلة بسبب الضغوط الروسية عليها فيما يتعلق باستغلال الموانيء الإسكندنافية..

هنا كانت روسيا تودع عهد نيقولا الأول الذي وافته المنية في مارس 1855 وخلفه ابنه إسكندر الثاني، بينما كانت النمسا تنتقل من خانة الوسط إلى موقف التحالف الكامل ضد روسيا..

ومع كل تلك الضغوط، اضطر الروس للتسليم بالأمر الواقع، وأعلنوا الموافقة على إنهاء حالة الحرب، وبالفعل تم عقد مؤتمر السلام في باريس في فبراير 1856 .

هكذا كانت حرب القرم بمثابة مصباح علاء الدين للقوى المتصارعة: فرجل أوروبا المريض – الدولة العثمانية – كسب بضعة عقود من العمر في فترة احتضاره، وروسيا التي كانت تطمع في أن تطلق على هذا المريض رصاصة الرحمة لتسارع إلى نيل نصيب الأسد من تركته استطاعت – وفقًا لبنود اتفاقية باريس 1856 – أن تخلق لنفسها دورًا قويًا في البلقان والدانوب من خلال الشعوب الساعية للانفصال عن العثمانيين كالصرب والبوسنة والجبل الأسود، أما إنجلترا وفرنسا فقد حققتا نصرًا مزدوجًا فمن ناحية صار تدخلهما في شأن الولايات العثمانية-بالذات مصر-أكبر وأعمق، ومن ناحية أخرى فإنهما استطاعتا تأجيل إعلان وفاة العملاق العثماني إلى حين ترتيب كلا منهما أوراقها وخططها لتقسيم التركة بهدوء فضلًا عن إنهاكهما روسيا بحرب لم تخرج منها تلك الأخيرة إلا وقد وهنت عظامها، وأسرة محمد علي استطاعت أن تحصل لنفسها على مزيد من الاستقلال ولو بصورة شكلية ومؤقتة، والنمسا أثبتت قدرتها على مزاحمة الدول الأوروبية الكبرى إن لم يكن حربيًا فدبلوماسيًا..

هكذا يمكن لحرب بدأت بدعوى الخلاف على الأماكن المقدسة، ودارت في شبه جزيرة صغيرة تقع على مسافة كبيرة من مكان الخلاف، أن تحقق مكاسب لدول وأنظمة تتوزع بين ثلاث قارات! وما هذا على ما تفعله السياسة بعجيب!

أضف تعليق